قرأت على الشيخ الصالح أبي المكارم المبارك بن محمد بن المعمر البادرائي أخبركم أبو غالب بن أحمد الباقلاني وقرئ على أبي القاسم هبة الله بن الحسن بن هلال الدقاق، وأنا أسمع أخبركم أبو طاهر عبد الملك بن أحمد السيوري قالا: "أنبأ أبو القاسم بن بشران، أنبأ أبو بكر الآجري قال: سمعت أبا بكر بن أبي الطيب يقول: بلغنا عن عبد الله بن الفرج العابد قال:
"احتجت إلى صانع يصنع لي شيئا من أمر الروزجاريين، فأتيت السوق فإذا بأواخرهم إلا شاب مصفر بين يديه زنبيل كبير ومر، وعليه جبة صوف ومئزر صوف،
فقلت له: "تعمل؟"،
قال: "نعم"،
قلت: "بكم؟"،
قال: "بدرهم ودانق"،
فقلت له: "قم حتى تعمل قال على شريطة"،
قلت: "ما هي؟"،
قال: "إذا كان وقت الظهر فأذن المؤذن خرجت فتطهرت وصليت في المسجد جماعة ثم رجعت، فإذا كان وقت العصر فكذلك"،
فقلت: "نعم"،
فقام معي فجئنا المنزل فوافقته على ما ينقله من موضع إلى موضع، فشد وسطه وجعل يعمل ولا يكلمني بشيء حتى أذن المؤذن الظهر، فقال: "يا عبد الله قد أذن المؤذن"...
قلت: "شأنك"،
فخرج فصلى فلما رجع عمل أيضا عملا جيدا إلى العصر فلما أذن المؤذن قال لي: "يا عبد الله قد أذن المؤذن"،
قلت: "شأنك"،
فخرج فصلى العصر ثم رجع فلم يزل يعمل إلى آخر النهار فوزنت له أجرته وانصرف، فلما كان بعد أيام احتجنا إلى عمل فقالت لي زوجتي: "اطلب لنا ذاك الصانع الشاب فإنه قد نصحنا في عملنا"، فجئت السوق فلم أره فسألت عنه فقالوا: "تسأل عن ذاك المصفر المشؤوم الذي لا نراه إلا من سبت إلى سبت، لا يجلس إلا وحده في آخر الناس؟!"...
قال: فانصرفت فلما كان يوم السبت أتيت السوق فصادفته فقلت: "تعمل؟"،
فقال: "قد عرفت الأجرة والشرط"...
قلت: "أستخير الله تعالى"، فقام فعمل على النحو الذي كان يعمل قال فلما وزنت له الأجرة زدته فأبى أن يأخذ الزيادة، فألححت فيه عليه فضجر وتركني ومضى فغمني ذلك فاتبعته وداريته حتى أخذ أجرته فقط فلما كان بعد مدة احتجنا أيضا إليه فمضيت في يوم السبت فلم أصادفه فسألت فقيل لي: "هو عليل"، وقال لي من يخبر أمره: "إنما كان يجيء إلى السوق من سبت إلى سبت يعمل بدرهم ودانق ويتقوت كل يوم بدانق، وقد مرض"،
فسألت عن منزله فأتيته وهو في بيت عجوز، فقلت: لها هنا الشاب الروزجاري فقالت هو عليل منذ أيام فدخلت عليه فوجدته لما به وتحت رأسه لبنة فسلمت عليه وقلت: "لك حاجة؟"، قال: "نعم، إن قبلت"، قلت: "أقبل إن شاء الله"، قال: "إذا مت فبع هذا المر، واغسل جبتي هذه الصوف وهذا المئزر وكفني بهما، وافتق جيب الجبة فإن فيها خاتما، وانظر يوم يركب هارون الرشيد فقف له في موضع يراك فكلمه وأره الخاتم، فإنه سيدعو بك فسلم إليه الخاتم، ولا يكون هذا إلا بعد دفني"،،
قلت: "نعم"...
فلما مات فعلت به ما أمرني، ثم نظرت اليوم الذي يركب فيه الرشيد فجلست له على الطريق فلما مر ناديته يا أمير المؤمنين لك عندي وديعة ولوحت بالخاتم، فأمر بي، فأخذت وحملت حتى أدخلت إلى داره ثم دعاني ونحى جميع من عنده، وقال من أنت قلت: "عبد الله بن الفرج"...
فقال: "هذا الخاتم من أين لك؟!"...
فحدثته قصة الشاب فجعل يبكي حتى رحمته، فلما أنس إلي قلت: "يا أمير المؤمنين من هو منك؟"،
قال: "ابني"...
قلت: "كيف صار إلى هذه الحال؟"...
قال: "ولد لي قبل أن أبتلى بالخلافة، فنشأ نشوءا حسنا وتعلم القرآن والعلم، فلما وليت الخلافة تركني ولم ينل من دنياي شيئا، فدفعت إلى أمه هذا الخاتم وهو ياقوت يسوى مالا كثيرا، فدفعته إليها وقلت تدفعين هذا إليه، وكان برا بأمه وتسألينه أن يكون معه فلعله أن يحتاج إليه يوما من الأيام فينتفع به، وتوفيت أمه فما عرفت له خبرا إلا ما أخبرتني به أنت"...
ثم قال: "إذا كان الليل اخرج معي إلى قبره"...
فلما كان الليل خرج وحده معي يمشي حتى أتينا قبره فجلس إليه فبكى بكاء شديدا، فلما طلع الفجر قمنا فرجع ثم قال: "تعاهدني في الأيام حتى أزور قبره"...
فكنت أتعاهده في الليل فنخرج حتى نزوره ثم نرجع...
قال عبد الله بن الفرج ولم أعلم أنه ابن الرشيد حتى أخبرني الرشيد أنه ابنه...
من كتاب (التوابين) لابن قدامة المقدسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق