|
فتح الباري بشرح صحيح البخاري
قَوْله : ( حَدَّثَنَا مُوسَى بْن إِسْمَاعِيل ) قَوْله : ( حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَة ) وَمُوسَى بْن أَبِي عَائِشَة قَوْله : ( كَانَ مِمَّا يُعَالِج ) قَوْله : ( فَقَالَ اِبْن عَبَّاس فَأَنَا أُحَرِّكهُمَا ) قَوْله : ( فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ ) وَقَوْله فَأَنْزَلَ اللَّه ( لَا تُحَرِّك بِهِ لِسَانك ) قَوْله : ( جَمَعَهُ لَك صَدْرك ) هُوَ أَبُو سَلَمَة التَّبُوذَكِيّ , وَكَانَ مِنْ حُفَّاظ الْمِصْرِيِّينَ . هُوَ الْوَضَّاح بْن عَبْد اللَّه الْيَشْكُرِيّ مَوْلَاهُمْ الْبَصْرِيّ , كَانَ كِتَابه فِي غَايَة الْإِتْقَان . لَا يُعْرَف اِسْم أَبِيهِ , وَقَدْ تَابَعَهُ عَلَى بَعْضه عَمْرو بْن دِينَار عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر . الْمُعَالَجَة مُحَاوَلَة الشَّيْء بِمَشَقَّةٍ , أَيْ : كَانَ الْعِلَاج نَاشِئًا مِنْ تَحْرِيك الشَّفَتَيْنِ , أَيْ : مَبْدَأ الْعِلَاج مِنْهُ , أَوْ " مَا " مَوْصُولَة وَأُطْلِقَتْ عَلَى مَنْ يَعْقِل مَجَازًا , هَكَذَا قَرَّرَهُ الْكَرْمَانِيُّ , وَفِيهِ نَظَر ; لِأَنَّ الشِّدَّة حَاصِلَة لَهُ قَبْل التَّحَرُّك , وَالصَّوَاب مَا قَالَهُ ثَابِت السَّرَقُسْطِيّ أَنَّ الْمُرَاد كَانَ كَثِيرًا مَا يَفْعَل ذَلِكَ , وَوُرُودهمَا فِي هَذَا كَثِير وَمِنْهُ حَدِيث الرُّؤْيَا " كَانَ مِمَّا يَقُول لِأَصْحَابِهِ : مَنْ رَأَى مِنْكُمْ رُؤْيَا " ؟ وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : وَإِنَّا لَمِمَّا نَضْرِب الْكَبْش ضَرْبَة عَلَى وَجْهه يُلْقِي اللِّسَان مِنْ الْفَم قُلْت : وَيُؤَيِّدهُ أَنَّ رِوَايَة الْمُصَنِّف فِي التَّفْسِير مِنْ طَرِيق جَرِير عَنْ مُوسَى بْن أَبِي عَائِشَة وَلَفْظهَا " كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ جِبْرِيل بِالْوَحْيِ فَكَانَ مِمَّا يُحَرِّك بِهِ لِسَانه وَشَفَتَيْهِ " . فَأَتَى بِهَذَا اللَّفْظ مُجَرَّدًا عَنْ تَقَدُّم الْعِلَاج الَّذِي قَدَّرَهُ الْكَرْمَانِيُّ , فَظَهَرَ مَا قَالَ ثَابِت , وَوَجْه مَا قَالَ غَيْره أَنَّ " مِنْ " إِذَا وَقَعَ بَعْدهَا " مَا " كَانَتْ بِمَعْنَى رُبَّمَا , وَهِيَ تُطْلَق عَلَى الْقَلِيل وَالْكَثِير وَفِي كَلَام سِيبَوَيْهِ مَوَاضِع مِنْ هَذَا مِنْهَا قَوْله : اِعْلَمْ أَنَّهُمْ مِمَّا يَحْذِفُونَ كَذَا . وَاَللَّه أَعْلَمُ . وَمِنْهُ حَدِيث الْبَرَاء " كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْف النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا نُحِبّ أَنْ نَكُون عَنْ يَمِينه " الْحَدِيث , وَمِنْ حَدِيث سَمُرَة " كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى الصُّبْح مِمَّا يَقُول لِأَصْحَابِهِ : مَنْ رَأَى مِنْكُمْ رُؤْيَا " . جُمْلَة مُعْتَرِضَة بِالْفَاءِ , وَفَائِدَة هَذَا زِيَادَة الْبَيَان فِي الْوَصْف عَلَى الْقَوْل , وَعَبَّرَ فِي الْأَوَّل بِقَوْلِهِ " كَانَ يُحَرِّكهُمَا " وَفِي الثَّانِي بِرَأَيْت ; لِأَنَّ اِبْن عَبَّاس لَمْ يَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ الْحَالَة ; لِأَنَّ سُورَة الْقِيَامَة مَكِّيَّة بِاتِّفَاقٍ , بَلْ الظَّاهِر أَنَّ نُزُول هَذِهِ الْآيَات كَانَ فِي أَوَّل الْأَمْر , وَإِلَى هَذَا جَنَحَ الْبُخَارِيّ فِي إِيرَاده هَذَا الْحَدِيث فِي بَدْء الْوَحْي , وَلَمْ يَكُنْ اِبْن عَبَّاس إِذْ ذَاكَ وُلِدَ ; لِأَنَّهُ وُلِدَ قَبْل الْهِجْرَة بِثَلَاثِ سِنِينَ , لَكِنْ يَجُوز أَنْ يَكُون النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ بَعْد , أَوْ بَعْض الصَّحَابَة أَخْبَرَهُ أَنَّهُ شَاهَدَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَالْأَوَّل هُوَ الصَّوَاب , فَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي مُسْنَد أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيّ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَة بِسَنَدِهِ . وَأَمَّا سَعِيد بْن جُبَيْر فَرَأَى ذَلِكَ مِنْ اِبْن عَبَّاس بِلَا نِزَاع . لَا تَنَافِي بَيْنهمَا ; لِأَنَّ تَحْرِيك الشَّفَتَيْنِ , بِالْكَلَامِ الْمُشْتَمِل عَلَى الْحُرُوف الَّتِي لَا يَنْطِق بِهَا إِلَّا اللِّسَان يَلْزَم مِنْهُ تَحْرِيك اللِّسَان , أَوْ اِكْتَفَى بِالشَّفَتَيْنِ وَحَذَفَ اللِّسَان لِوُضُوحِهِ ; لِأَنَّهُ الْأَصْل فِي النُّطْق إِذْ الْأَصْل حَرَكَة الْفَم , وَكُلّ مِنْ الْحَرَكَتَيْنِ نَاشِئ عَنْ ذَلِكَ , وَقَدْ مَضَى أَنَّ فِي رِوَايَة جَرِير فِي التَّفْسِير " يُحَرِّك بِهِ لِسَانه وَشَفَتَيْهِ " فَجَمَعَ بَيْنهمَا , وَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اِبْتِدَاء الْأَمْر إِذَا لُقِّنَ الْقُرْآن نَازَعَ جِبْرِيل الْقِرَاءَة وَلَمْ يَصْبِر حَتَّى يُتِمّهَا مُسَارَعَة إِلَى الْحِفْظ لِئَلَّا يَنْفَلِت مِنْهُ شَيْء , قَالَهُ الْحَسَن وَغَيْره . وَوَقَعَ فِي رِوَايَة لِلتِّرْمِذِيِّ " يُحَرِّك بِهِ لِسَانه يُرِيد أَنْ يَحْفَظهُ " وَلِلنَّسَائِيّ " يَعْجَل بِقِرَاءَتِهِ لِيَحْفَظهُ " وَلِابْنِ أَبِي حَاتِم " يَتَلَقَّى أَوَّله , وَيُحَرِّك بِهِ شَفَتَيْهِ خَشْيَة أَنْ يَنْسَى أَوَّله قَبْل أَنْ يَفْرَغَ مِنْ آخِره " وَفِي رِوَايَة الطَّبَرِيّ عَنْ الشَّعْبِيّ " عَجَّلَ يَتَكَلَّم بِهِ مِنْ حُبّه إِيَّاهُ " وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مُرَاد , وَلَا تَنَافِي بَيْن مَحَبَّته إِيَّاهُ وَالشِّدَّة الَّتِي تَلْحَقهُ فِي ذَلِكَ , فَأُمِرَ بِأَنْ يُنْصِتَ حَتَّى يُقْضَى إِلَيْهِ وَحْيه , وَوُعِدَ بِأَنَّهُ آمِن مِنْ تَفَلُّته مِنْهُ بِالنِّسْيَانِ أَوْ غَيْره , وَنَحْوه قَوْله تَعَالَى ( وَلَا تَعْجَل بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْل أَنْ يُقْضَى إِلَيْك وَحْيه ) أَيْ بِالْقِرَاءَةِ . كَذَا فِي أَكْثَر الرِّوَايَات وَفِيهِ إِسْنَاد الْجَمْع إِلَى الصَّدْر بِالْمَجَازِ , كَقَوْلِهِ أَنْبَتَ الرَّبِيع الْبَقْل , أَيْ : أَنْبَتَ اللَّه فِي الرَّبِيع الْبَقْل , وَاللَّام فِي " لَك " لِلتَّبْيِينِ أَوْ لِلتَّعْلِيلِ , وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة وَالْحَمَوِيّ " جَمَعَهُ لَك فِي صَدْرك " وَهُوَ تَوْضِيح لِلْأَوَّلِ , وَهَذَا مِنْ تَفْسِير اِبْن عَبَّاس . وَقَالَ فِي تَفْسِير ( فَاتَّبِعْ ) أَيْ : فَاسْتَمِعْ وَأَنْصِتْ , وَفِي تَفْسِير ( بَيَانه ) أَيْ : عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأهُ . وَيُحْتَمَل أَنْ يُرَاد بِالْبَيَانِ بَيَان مُجْمَلَاته وَتَوْضِيح مُشْكِلَاته , فَيُسْتَدَلّ بِهِ عَلَى جَوَاز تَأْخِير الْبَيَان عَنْ وَقْت الْخِطَاب كَمَا هُوَ الصَّحِيح فِي الْأُصُول , وَالْكَلَام فِي تَفْسِير الْآيَات الْمَذْكُورَة أَخَّرْته إِلَى كِتَاب التَّفْسِير فَهُوَ مَوْضِعه . وَاَللَّه أَعْلَم . |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق